الخميس، 25 أكتوبر 2012

طال عمره




__ (( طال عمره )) __

كعادتي التي كتبها علي القدر , أصحو باكراً , أصلي الفجر وأرتدي ثيابي إستعداداً للرحلة اليومية للبحث عن الرزق , أتناول إفطاري المكون من بعض الخبز والفول وشيئ من القشطة والمربى ( وهذه عادة لاتكون سوى في أول الشهر ) ,,,
وبينما أنا على ذلك , تقوم زوجتي المصون بإيقاظ أبنائي ( ثلاثة ذكور وإبنتين وطفلين أحدهما في الثالثة والآخر في الخامسة ) للذهاب إلى المدرسة ,,,
وتجهز لهم إفطارهم اليومي وتعد لهم الشطائر وتضعها في حقائبهم ,,,

ولايخلوا الأمر من المعزوفة اليومية ( بابا , المصروف مايكفي يجيب ساندويتش و واحد بارد ) ( بابا , أصحابي يحطون قطة من 5 ريال وأنا كل مصروفي 3 ريال ) !!!
أنظر إليهم بنظرة العاجز ولاتنبس شفتاي بكلمة واحدة ,,,
وتأتيني الإبنة الصغرى لتقول لي ( بابا إذا محتاج المصروف للبنزين خدو ) ؟؟؟
أحبس دموعي بكل ما أملك من قوة كي لاتنهمر أو أنهار أمامها ,,,
أحتسي ( فنجال ) الشاهي على عجلة وأقوم بعد ذلك إلى سيارتي الأجرة العتيقة ,,,
ومثل كل يوم , أبحث في هذا الصباح عمن يعينني على تشغيلها بواسطة وصل الكهرباء لبطاريتها التي تنام ليلاً مثلما أنام !!!
أنطلق بها بعد الدعاء بأدعية جلب الرزق وعلى بركة الله ,,,
أشار لي أحدهم ووقفت له ,
ـ حي العزيزية , بكام ؟
ـ قدر ماتدفع يابني , فأنت أول رزقي هذا النهار .
أوصلته ودفع لي 15 ريالاً , لابأس بها ونحمد الله عليها ,,,
وصلت إلى أحد الشوارع الحديثة , ومن بعيد لمحت شخصاً يلبس الزي الوطني ملثماً ولكنه لايشير إلى طلب سيارة أجرة ,,,
حاذيته وقلت له هل أوصلك ؟؟
قال لي :
ـ يا أخ سيارتك قديمة ولا أعتقد أنها ستوصلني مشواري !!!

قلت له :
ـ لاتنظر إلى الشكل , فهي مكيفة وقوية ونحن نتوكل على الله .

قال :
ـ لا إله إلا الله , توكلنا على الله .

وفتح الباب الخلفي , ثم أغلقه بسرعة , وقال لقد نسيت !!! ولا أعلم ماذا نسى ؟؟؟
ثم فتح الباب الأمامي وركب السيارة ,,,
قلت له أثناء قيامي بتحريك السيارة للأمام دون أن أنظر إلى وجهه :
ـ إلى اين ياسيدي ؟؟؟

قال :
أريد أن أتمشى معك طول هذا النهار في هذه المدينة , تأخذني في كافة إتجاهاتها وشوارعها ومعالمها .

وحينها فقط نظرت إليه لأبدي إستغرابي , وحينها فقط أيضاً صُعقت من هول المفاجأة ,,,
وجدت أن من كان واقفاً متلثماً في الشارع وتوددت إليه كي يركب معي , وأن من يريد هذا المشوار الغريب لم يكن إلا ,,, ولي الأمر ,,, طال عمره !!!
تلعثمت وبدأت يداي وشفتاي في الإنتفاض والحروف تخرج من فمي ناقصةً مبحوحةً , وحتى قدماي إرتبكت في العمليات المتناغمة على دواسات السيارة وصارت السيارة وكأن مساً شيطانياً أصابها فهي تتحرك برهة وتقف أخرى ,,,
لاحظ ذلك الذي أصابني فما كان منه إلا أن سارع إلى تهدئتي بقوله :
ـ على مهلك ياعم , إهدأ , نعم هذا أنا فلان إبن فلان , ولي أمرك . أكمل طريقك وأحسن قيادة السيارة وعلى بركة الله .
فقلت له :
ياسيدي ومولاي أعذرني على جهلي وهذه السيارة لاتليق بمقامكم طال عمركم , وأنا ومنذ أن كنت في بطن أمي أعلنت لكم الولاء والسمع والطاعة ولم أتكلم في السياسة يوماً وأبنائي أراقبهم لئلا يكون أحدهم إرهابياً أو متطرفاً فأبلغ عنه أولاً بأول وأدعو الله لكم على ماتفضلتم به علينا وأنعمتم به , الضمان الإجتماعي لكل مواطن والعلاج والدواء والغذاء والجمعيات الخيرية التي نرفل في خيرها والدور الخيرية التي نسكن فيها وكل شيئ ( عال العال ) و ...

فقطع حديثي بقوله :
ـ يا عم ؟ قلت لي ما أسمك ؟

ـ خادمكم أحمد
ـ يا عم أحمد لو لم أريد أن أركب معك في هذه السيارة لما ركبت , والآن أنطلق بنا إلى حيث أشرت عليك .
ـ ( سم طال عمرك ) ( تامر أمر ) .
في هذه اللحظات رن هاتفي الجوال فقفلته سريعاً , فنظر لي طال عمره وقال :
ـ لماذا أقفلت الهاتف ؟

قلت له : إحتراماً لوجودكم طال عمركم .
قال : لاتقفله مرة أخرى و ( خذ راحتك ) .
ـ هذا كرمُ منكم طال عمركم .
عرجت على شارع آخر وبدأت السيارة في عزف ألحانها الشجية على وقع ما بالشارع من مطبات وحفر , حتى أن طال عمره كاد أن يصطدم وجهه بتابلوه السيارة وأحسست بالحرج الشديد وأوقفت السيارة لأطمئن عليه .
ـ ماهذا الشارع يا عم أحمد ؟
ـ هذا الشارع من ضمن شوارع المدينة القديمة وهو هنا منذ ثلاثين عاماً .
ـ لم أمر عليه من قبل . ما إسمه ؟
ـ إسمه شارع ( ............. ) طال عمركم , وهو لم يتشرف بمروركم عليه إلا في هذا اليوم المبارك طال عمركم , ولو عرف المسئولون لكان اليوم أنعم من خد العروس !!!!!
ـ لاحول ولا قوة إلا بالله , سر يا عم أحمد ولكن على مهل حتى لاتتمزع سيارتك .
ـ أبشر بسعدكم طال عمركم .
رن هاتفي الجوال مرة أخرى , فنظرت إليه مسئذناً وفهم المقصود , وهز رأسه بالإيجاب .
ـ ألو , نعم .
زوجتي على الطرف الآخر : يا أبا الوليد , إنقطعت المياه ويلزم إحضار ( وايت ) .
ـ نعم سأقوم بإحضاره , شكراً , في أمان الله .
طال عمره : ما الأمر ؟
ـ هذه أم الأولاد تقول بأن الماء إنقطع ويجب إحضار وايت ماء .
ـ وهل تنقطع عندكم المياه ؟
ـ قل ياسيدي متى تأتي حتى تنقطع !!! تأتينا على إستحياء مرة واحدة في الشهر لست ساعات ولاتزورونا إلا في الشهر القادم . ونسمع أنها في بعض الأحياء وبالذات الشمالية من كثر ما أنعم الله عليهم من الماء يغيرون ماء المسبح كل يوم مرتين ويغسلون أسطول السيارات مرتين كذلك والشجر في أحوشة بيوتهم تجده يميل للسواد من قوة خضاره بسبب إرتوائه من الماء .
ـ إذا إذهب لتأخذ وايت الماء .
( يحسب طال عمره أن وايت الماء عبارة عن علبة عصير تجدها على رف في سوبر ماركت ) !!!
ذهبنا إلى مصلحة المياه وعند وصولنا رأينا صفاً طويلاً يبلغ طوله نحو ثمانمائة متر من البشر يقفون خلف بعضهم , فصاح طال عمره بكل دهشة وإستغراب , ماهذا ؟
ـ هذا ( السرا ) طال عمرك , وهؤلاء الناس يقفون هنا منذ البارحة ليصل لهم الدور لأخذ الوايت والفوز بالماء .
ـ إذا توقفنا هنا سيذهب النهار كله , أعطني عنوانك وسوف أرسل لك الماء .
فأعطيته العنوان ( حي ... ـ شارع .... زقاق .... آخر الزقاق جوار منزل عم سعيد .... رباط الخير شقة 15 )
ـ وهل تسكن في رباط ؟؟؟
ـ نعم طال عمرك في شقة منه ذات غرفتين ومطبخ ودورة مياه .
ـ قلت لي كم أفراد أسرتك ؟
ـ أنا وزوجتي وسبعةً من الأبناء والبنات فداءاً لله ثم للدين والوطن والمليك طال عمركم .
ـ فقام طال عمره بإجراء إتصال من هاتفه الجوال بشخص ما وأعطاه العنوان وأمر بإرسال الماء .
فتشكرت منه داعياً الله أن ينعم عليه بطول العمر وثبات السلطان .
و واصلنا المسير بين شوارع المدينة وكنت جوار مبنى البلدية , فإستأذنت طال عمره في التوقف لدقائق للمراجعة والسؤال عن ما وصل إليه رقمي في منح ذوي الدخل المحدود , وسمح لي بذلك , ودخلت مسرعاً للإدارة المقصودة ,
ـ السلام عليكم , رقمي هو 5648975 أين وصل ( السرا ) لو سمحتوا ؟؟؟
المسئول :
ـ ياعم أحمد قلنا لك من الشهر الماضي , أنتظر .

ـ يا إبني وإلى متى أنتظر , فقد مضى على الرقم الذي أحمله سبعة عشر عاماً وكل شهر تقولون لي أنتظر , والعمر كم فيه سبعة عشر عاماً أخرى لأنتظر ؟؟؟
ـ هذا ماعندنا , وإذا لم يعجبك بإمكانك التشكي لدى المسئولين !!!
ـ الشكوى لله يابني , شكراً لكم .
خرجت مهموماً حزينا , وتذكرت بأنني قد تركت طال عمره في السيارة , فأسرعت إليه لأجده يقلب في موجات الإذاعة يسمع برامجها .
رن هاتفي الجوال , وكانت هذه المرة أيضاً زوجتي أم الوليد :

ـ أبا الوليد ماذا فعلت ؟
ـ قلت ماذا فعلت , لاشيئ !!
ـ قالت : هل أنت من أرسل 10 وايتات ماء للبيت ؟؟؟ هل أصبح مدير عام المصلحة صديقك لهذه الدرجة ؟؟؟ الوايتات سدت مداخل الحارة ومخارجها والناس ليس لهم كلام سوى كيف ومن أين أتى أبا الوليد بهذه الكمية من الوايتات .
فتبسمت ضاحكاً وقلت لها , يا أم الوليد بارك الله فيك , دعيهم يملئون الخزان عندنا ثم يقسمون الماء على كل جيراننا . وأقفلت الهاتف ( لو علمت بالأمر لسقطت من طولها ولم تفق ) .
ـ جزاكم الله خيراً طال عمركم , فلقد شربت الحارة كلها من الماء .
ـ لاشكر على واجب , أخبرني ماذا حدث معك في البلدية ؟؟؟
ـ لاداعي أن أعكر على حضرتكم مزاجكم .
ـ أخبرني ماذا حصل ؟
ـ لم يحصل شيئ سوى أن المنحة لازالت منذ سبعة عشر عاماً حبراً على ورق ومجرد رقم يتكون من عدة خانات , لا أقل ولا أكثر !!!
ـ سبعة عشر عاماً ؟؟؟ ( قالها بلهجة المصدق المكذب )
ـ نعم ياسيدي سبعة عشر عاماً وفي شهر رمضان القادم ستدخل عامها الثامن عشر .
ـ وكيف ذلك , وهم يرفعون لي بإعتماد مخططات ذوي الدخل المحدود كل شهر تقريباً ؟؟؟
ـ هذه المخططات طال عمركم التي تعتمدونها , تطبق على مواقع مميزة وتقطع إلى قطع صغيرة داخل المدن وتباع بأسعار فلكية لمن هم في مقام حجمنا ودخلنا ( المعدوم ) ,,,
أما ما تجود به أنفسهم ( وهذا يحدث كل خمس أعوام ) فيكون مخططاً على الرمل بدون أي خدمات وموقعه يتشابه والربع الخالي ويحتاج الوصول إليه ( الشد ) للسفر وإقام الصلاة قصراً وجمع . ويهللون ويكبرون في الصحف والمجلات وكل الوسائل الإعلامية بأنه تم تسليم ذوي الدخل ( المحروم ) قطع الأراضي وليس عليهم ( أي المحرومون ) سوى مراجعة البلدية لإستلام القطع , وهناك تفاجأ بإرسالك لمكتب يقتص منك ألف أو إثنتين من الريالات ليتفضل عليك بتحديد موقع قطعتك على الخريطة التي في أحسن الأحوال لاتساوي قيمة ماتقاضاه هذا المكتب .
ـ لاحول ولا قوة إلا بالله . ( هين ) إن شاء الله ,,,
ـ ياسيدي ومليكي , هون على نفسك , فقد تعودنا على هذه الحياة , ولم نعد نبالي , المهم عندنا أن يحسن الله خاتمتنا , وأما الأرض فسوف يعمرها الأبناء إن شاء الله بعد حصولهم على قرض صندوق التنمية الذي سيأخذ مثل ما أخذت قطعة الأرض من زمن , وسيذكرنا أبناؤنا بخير لأننا تقدمنا بطلب المنحة .
وهنا رن جرس هاتفي النقال مرة ثالثة :
ـ ألو , نعم . ( كانت إبنتي الصغرى ) :
ـ ( بابا ) معلمة التدبير المنزلي طلبت مني إحضار بعض الطلبات ليوم غد ضروري جداً .
ـ وماهي هذه الطلبات يا إبنتي ؟
ـ لقد ذهب أخي إلى المكتبة للسؤال عن أسعارها ووجدها بخمسة وسبعون ريالاً .
ـ خمسة وسبعون ريال ؟؟؟
اللهم لا إعتراض على حكمك , حاضر يا إبنتي , عند قدومي في المساء سنشتريها .
بعدها تبدل لون وجهي قليلاً إلى الصفار , وفي لحظة ركبني الهم والغم , كيف لي أن أدبر خمسة وسبعون ريالاً في خلال ساعات , وأنا لم أستفتح سوى بخمسة عشر , وهذا القابع إلى يميني لايمكنني أن أطلبه المال ولا أعلم إن كان سيعطيني أم لا ؟؟؟ !!!
ـ ماذا بك ياعم أحمد ؟
ـ لاشيئ طال عمرك ( قلتها وظل إبتسامة صفراء ترتسم على شفتاي )
ـ أراك مهموماً بعد مكالمتك الأخيرة هذه , خيراً إن شاء الله ؟
ـ خيراً خيراً , لاعليك ياسيدي , إبنتي الصغرى تطلب بعض المال لشراء مستلزمات مدرسية طلبتها معلمتها .
ـ وهل المعلمات يطلبن من الطالبات شراء مسلتزمات دراسية على حسابهن ؟
ـ نعم ياسيدي , أحياناً , وهم لهم الحق , فهن معلمات والقول الدارج لأمير الشعراء أحمد شوقي يقول ( قم للمعلم و وفه التبجيلا, كاد المعلم أن يكون رسولا ) ,,,
ـ لا حول ولاقوة إلا بالله , هل تعلم يا أبا الوليد أن ميزانية التعليم في المملكة التي أعتمدها تأتي في المرتبة الثالثة أو الرابعة بعد الدفاع والصحة من ناحية حجمها المالي ؟؟؟
وفي هذا العام أعتمدنا المليارات لنقل الطالبات ولتوطين المدارس المستأجرة إلى مدارس حكومية حديثة ولطباعة المناهج وتحديثها ,وتأتي مثل هذه المعلمة لتحمل ولي أمر طالبة بمبلغ كهذا ؟؟؟
هنا أحسست بتوتره طال عمره , فأحببت أن أغير المزاج العام , فقلت له :
ـ سيدي ومليكي , لاشك أنك تشعر بالجوع , فهذا وقت الغداء , فما رأيك بتناول وجبة خفيفة ومن ثم نواصل السير , وكذلك من أجل أت تستريح قليلاً هذه العجوز ( أقصد سيارتي بالطبع فلو أستمرينا بها في هذا الجو الخانق لسوف تتعطل وأصبح في موقف حرج لا أحسد عليه )

ـ نعم يا أبا الوليد , لا بأس في ذلك .
ـ إذا , هذا مطعم يبيع ( ساندوتشات ) بيض وجبن و ( طعمية ) ,,,
ـ سأنزل معك لأرى وأنتقي ,,,
ـ تلثم طال عمركم لئلا يهرب كل من في المطعم خوفاً ,,,
دلفنا إلى المطعم , وطلبت ساندويتشي طعمية وبيض .
ـ ماذا تأكل طال عمرك ؟
ـ مما تأكل أنت .
ـ إجعلها إثنين إثنين يابني , كم يبلغ حسابك ؟
ـ 10 ريالات
أخرجتها ودفعتها إليه , وطال عمره لم يرفع نظره عني .
أخذنا الساندويتشات وبدأنا نأكلها , وهو سارح لاينبس ببنت شفة ,,,
ـ أرجو أن تكون طيبة المذاق ؟
ـ جداً , أتعجب هل هذا هو ( غداؤك ) ؟؟؟
ـ نعم طال عمركم , فلا وقت عندي للذهاب إلى البيت ( وحتى لا أدع مجالاً للقهر أن يصيبني على غداء البيت الذي لايغني ولايشبع من جوع , بل أترك نصيبي لأبنائي ) ,,,
ـ ومتى تذهب إلى المنزل ؟
ـ في حدود منتصف الليل , أذهب منهكاً خائر القوى , أبحث عن فراشي لأضع رأسي إستعداداً ليوم رزقٍ جديد .
ـ وكم تبلغ ( غلتك ) في اليوم الواحد ؟
ـ أحيانا مائة ريال وأحياناً مائة وخمسون , وهكذا ,,,
ـ وهل هي كافية للصرف على أسرتك ؟
ـ لا , بالتأكيد , ولكنها تقيني وإياهم بعد فضل الله , جور الجوع والفقر والتشرد ,,, ولاتنسى أنني مسجل في الضمان الإجتماعي الذي أتقاضى منه مبلغاً زهيدا يعينني على هموم هذه الحياة .
ـ وماذا تفعل عند تقاعدك ؟؟؟
ـ سيدي ومولاي , مثلي لا يتقاعد إلا على نقالة الموتى !!! سأظل إلى آخر يوم في حياتي أعمل و ( أكد ) فيه على رزقي , فاليوم الذي لا أعمل فيه سيكون يوم جوع في البيت كله ,,,
ـ نعم , فهمت .
ـ هيا بنا ياسيدي
ـ توكلنا على الله ,,, أود أن أمتع ناظري بمنظر البحر ,,, فهل تذهب بنا إلى هناك ؟
ـ نعم ياسيدي , تأمرني ولك علي السمع والطاعة ,,,
وسرنا إلى منطقة شرم أبحر ,,,
ـ أين البحر ؟
ـ نعم ياسيدي , نحن نسير بمحاذاته وسوف نصل ,,,
كنت أتمتم بلاحول ولاقوة إلا بالله , فسمعني وسألني , لماذا ( تحوقل ) ؟
ـ أبداً طال عمركم , أبحث عن البحر فقط !!!
ـ تبحث عن البحر !! وهل هو قطعة ورق حتى يختفي ؟؟؟
ـ لاياسيدي , ولكن البحر موجود خلف هذه المباني والمنتجعات , ولاسبيل إلى الوصول إلى الشاطئ سوى أن تتحول سياراتنا هذه إلى ( هليوكوبتر ) كي تجتاز بنا عرض هذه المباني وتحط بنا على الشاطئ !!!
ـ هكذا إذن !!! ومن أنشأ هذه المباني وسد واجهة البحر عن المواطنين وحرمهم نعمة التنزه على شاطئ البحر ؟؟؟
ـ الذي عمل هذا , هم ياسيدي الذين حرمونا قطع أراضي منح ذوي الدخل المحدود !!! هم البلدية ومن ورائها , تصرفت في الأراضي بالإيجار لمن يملكون المال والنفوذ والسلطة وقاموا بدورهم بإنشاء هذه المباني والمنتجعات لتؤجر علينا بمبالغ ( فلكية ) لمن هم في وضعي . تخيل طال عمركم لكي أستطيع أن أرفه عن أبنائي يومي الخميس والجمعة بقضائها في البحر يتوجب علي دفع ستة آلاف ريال !!!
يعني بذلك علي أن أعمل عاماً كاملاً أي ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً لأقضي يومين في البحر ؟؟؟ ومن أجل ذلك , فقد نسيت أنني أعيش وأحيا في مدينة ساحلية إسمها ( جدة ) !!! والبحر أصبحنا نكتفي بحكايانا القديمة عنه , وأبنائي سيذهبون للبحر عندما يكبرون ويصبح حظهم أفضل حالاً من حظي في هذه الدنيا ,,,

أحسست أن هناك دمعةً ترقرقت من مآقي سيدي طال عمره ,,, فسكت , وخيم الصمت للحظات . قلت بعدها : لاعليك سيدي , سأذهب بك لمكان آخر ( تشاهد ) منه البحر ولكن دون أن ( تلمسه ) ,,,
وذهبت به إلى مايسمى ( كورنيش ) جدة ,,, وأوقفت السيارة عند أحد أطرافه , وقلت له تفضل طال عمركم , هنا تستطيعون أن ترون البحر ,,, ونزلنا وكنت أهم بوضع ( فرشة ) لنجلس عليها لولا أن إنطلق في تلك اللحظة ما أسميه أنا شخصيا ( التاكسي ) وهو عبارة عن صرصور زاحف من ذوات الأحجام الثقيلة كريه المنظر ,,,
فنظر إليه طال عمره وقال ماهذا ؟ ومن أين أتى ؟
قلت له المثل الدارج ( هذا الله وهذي حكمته ) ,,, هذه أشياء بسيطة ولابد منها هنا في الكورنيش , ويتبقى أن تتعرف على أبناء عمومتهم ( الفئران ) السمان , وأصدقاؤهم ( القطط ) كي يكتمل إحساسك بأنك موجود في الكورنيش !!! وهم سيأتون الآن ولن يتأخروا !!
ـ حسبنا الله ونعم الوكيل ( قالها والأسى ينبض من عينيه ,,, ) قم بنا لنذهب إلى مكان آخر ,,,

ـ تأمرني أمر طال عمركم ,,, إلى أين ؟
ـ والله لقد أغممت قلبي هذا اليوم وأوجعتني ( يقولها والألم بادي على محياه ) ,,, هلا أعدتني إلى مكان اللقاء الأول .
ـ لم تنتهي جولتنا بعد ياسيدي , ولك ما أردت , لكن لماذا لا أوصلك إلى قصرك المنيف ؟؟؟
ـ لقد تركت أحد ( الأخوية ) هناك ليعيدني للبيت وهو في إنتظاري .
ـ حسناً , تأمرني أمر طال عمركم ,,,
وتوجهت به نحو المكان الأول , وكان الوقت قد شارف وقت صلاة العشاء ,,,
وعندما وصلنا , ودعني بكلمات طيبة ودعاء خالص وشكرٍ جميل , وأدخل يده في جيبه ليخرج رزمة ورقية مالية لم يكلف نفسه عدها ووضعها في يدي وأنا أحاول التملص منها حياءً وخجلاً وهو يصر عليها وهممت أن أقبل يديه فسحبها سريعاً ونزل وأقفل باب السيارة .
وقفت أتتبعه بنظراتي وهو متوجه لسيارة فارهة ( تصل قيمتها لما هو أكبر من قيمة الرباط الذي أسكن فيه ) كانت تقف على جانب الطريق وأنطلقت بمجرد ركوبه فيها ,,,

أخذت في لحظات أسترجع معالم يومي هذا , هل هو حلم أو حقيقة ؟؟؟
هل هذا الذي كان معي طيلة النهار هو فعلاً ولي الأمر طال عمره أم هو من تبليس إبليس ؟؟؟
الرجل الذي بهر العالم بحكمته وسياسته كان هنا معي !!! وفي هذه السيارة !!!
أنا الذي عشت هذا الموقف لم أكن أصدق ذلك ,,,
عرجت على أحد المساجد لأصلي العشاء , وبقيت في المسجد بعد الصلاة متأملاً متفكراً في أحداث هذا اليوم ولازلت غير مصدق ماجرى معي ,,,
خرجت من المسجد وأكملت طلبي للرزق , ورزقني الله بعدة مشاوير كنت أوصل أصحابها شارد الذهن غير مهتم بأي مبلغ مقابل التوصيل ولا بأي حديث معهم على غير عادتي في الثرثرة ,,,
وصار الوقت منتصف الليل وهو الوقت المعتاد على التوجه للمنزل ,,,
وصلت لحارتي وأوقفت سيارتي تحت أحد منازلها وواصلت سيري على قدماي للمنزل ,,,
فتحت الباب لأدخل , وكان المنزل مظلماً على غير العادة , وتبادرت إلى ذهني فوراً فاتورة الكهرباء اللعينة التي لم أسددها وأصبت بحالة إمتعاظ من شركة الكهرباء التي لاترحم من هم مثلي ,,,
وفجأةً , أُضيئت الأنوار كلها مرة واحدة ووجدت أفراد أسرتي كلهم أمامي وكانت مفاجأة منهم على غير العادة , فهذا وقت نومهم جميعاً ,,,
فأصبت بحالة تبلم غير مستوعباً القصة ,,,
فبادرتني أم الوليد زوجتي حفظها الله بقولها :
ـ إفرح يا أبا الوليد , هذا صك تملكك ( فلة ) في أرقى أحياء المدينة أتانا به شيخ طائفة العقاريين .
وبادرني أكبر أبنائي الوليد :
ـ أبي , حضر إلينا اليوم عصراً مدير مدرسة ............ الخاصة وقال لي أنني وأخواني وأخواتي سندرس في مدارسهم الخاصة بداية من يوم الغد ( هذه المدرسة تكلف الطالب رسوم دراسة سنة واحدة ما لا يقل عن مئة ألف ريال ) وحتى التخرج ,,, وهذا يشمل حتى أخواني الذين لم يبلغوا سن المدرسة بعد عند دخولهم المدرسة ,,,
ـ أم الوليد : كما حضر إلينا أيضاً شخص قال لي يا أم الوليد تسلمي هذه . قلت وماهذه ؟
قال ـ إستمارة ملكية سيارة جيب تويوتا لاندكروزر جديد موديل العام بإسم زوجك , ليأتي غداً ويتسلمه , وألف مبروك .

وكذلك حضر شخص لم يعرف عن نفسه وأعطاني هذا الخطاب , وناولتني إياه , ففتحته لأجده أمر تعييني على وظيفة مراسل بأحد الإدارات الحكومية براتب أربعة آلاف ريال !!!
الحقيقة , لم أتمالك نفسي من الوقوف , ولم تعد قدماي تحملني , وأحسست برجفة تسري في جميع أنحاء جسدي وعروقي ,,,
تذكرت على الفور المبلغ الذي أخذته من سيدي طال عمره , فدسست يدي في جيبي ووجدته على حاله وبمثل ماأطبقه في يدي ,,,
أخرجته , فإذا هو مبلغ من فئة الخمسمائة ريال , عددته ,,, ألف ألفين ثلاثة , عشرة , خمسة عشر ألف ريال بالتمام والكمال ,,,
لم أتمالك نفسي , وبدأت أصيح وأشهق وأبكي بكل قوتي وبدون أي سيطرة مني على نفسي ,,,
طال عمرك , طال عمرك , طال عمرك
ولم أشعر إلا بيد زوجتي أم عبد الله توقظني لصلاة الفجر وهي مرتاعة وتحاول أن تهدئ من روعي وصياحي في منامي ,,,
ـ خير اللهم أجعله خيراً يارب , ماذا بك ياقرة العين ؟؟؟
ففتحت عيناي بتثاقل ونظرت يمنة ويسرة في ظلام الغرفة , وأنظر إلى زوجتي بكل ذهول وأتلفت في المكان وأردد , أين أنا ؟؟ أين أنا ؟؟
ـ أنت في البيت يا أبا عبد الله , لقد أفزعتني وأخفتني بارك الله فيك ,,, ألم أقل لك ألا تثقل من أكل المحاشي في الليل !!!
قم ياحبيب العمر ,,, لقد أذن منادي الحق لصلاة الفجر ,,,
فقمت وأنا أتسائل من هذا المدعو ( أبا الوليد ؟؟؟ )
______________________________

زادي ( في لحظة تجلي ) @#@

تقبلوا خالص تحياتي وتحيات ( طال عمره ) !!! 



المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق